الإشاعة:
اعتدنا أن نسمع عن امرأة شديدة الجمال تظهر في الليالي المظلمة وسط الحقول تنادي باسم شخص معين، ثم يتبع هذا النداء مسحورًا بصوتها الفريد الذي لا يمكن مقاومته، لكن في اليوم التالي يجد الناس جثة هذا “المندوه” وقد فارقتها الحياة. هذه المرأة أطلق عليها في التراث الشعبي “النداهة”، فهل حصدت بالفعل الأرواح التي اتُهمَت فيها، أم أنها من وحي خيال أهل الريف؟
الحقيقة:
– اتفق عدد كبير من المحققين أن كثيرًا من القتلة في المناطق الريفية يتحججون بوجود النداهة لإخفاء جرائمهم، فيروون قصة النداهة واصطحابها للمندوه للعالم السفلي حتى وفاته، وسط تصديق من الناس للقصة وتقييد الجرائم ضد مجهول لاعتقاد الناس أن سبب الوفاة هو النداهة التي هرب بسببها الكثير من القتلة غير المعروفين.
– وبالذهاب لنظرة علم الاجتماع للقصة نجد رأيًا مشابهًا، حيث يرى د. مصطفى رجب، أستاذ علم الاجتماع وعميد كلية التربية الأسبق بجامعة جنوب الوادي، أن أثر النداهة لا يزال مستمرًا حتى الآن، وهو وراء الكثير من الجرائم التي ترتكب من أجل إشباع الرغبات أو تحقيق الثراء السريع وتعويض الحرمان، فالنداهة هي الرغبة الداخلية التى تسيطر على الإنسان بشكل جنوني وتدفعه إلى السعي لتحقيقها وإشباعها بكل شكل ممكن، مهما كانت العواقب، وهي الإحساس بالقهر النفسي والاجتماعي، والذي لا يشترط أن يكون ناتجًا عن التعرض للظلم فقط، ولكن القهر أيضًا يأتي من شعور الإنسان بقلة الحيلة، وعدم القدرة على تحقيق أحلامه أو حتى إشباع شعوره بالحرمان الشديد من شىء ما.
– أما علم النفس يطرح تفسيرًا مختلفًا، حيث علق الدكتور مينا جورج، رئيس قسم التأهيل النفسي بمستشفى العباسية، على قصة النداهة قائلًا: “أعتقد أن هذه الأسطورة كانت فى البداية وراءها النساء، فهي تحمل مدلولًا مجازيًا بأن الرجل الذي يهيم على وجهه خارج بيته معرض للإغواء من قبل امرأة جميلة تتسبب في إفساد حياته إذا تتبعها ومشى خلفها، والظلام أو الليل قد يرمز إلى تتبع الرجل لشهوته، لأن الشهوة والخطأ يحدثان دائمًا في الظلام وفي الخفاء، كما أنه من الموروث والشائع أن الرجل الذي يمشي وراء نزواته وشهوته يفقد عقله، وقد يرمز الظلام أيضًا إلى فترة تشهد فيها العلاقة بين الرجل وزوجته تدهورًا، والكثير من المشكلات تجعله صيدًا مميزًا للجنية أو النداهة”.
– ويطرح د. جورج تفسيرًا آخرًا إيجابيًا للقصة وهي أن تكون النداهة هي الشغف الخاص بكل شخص، خاصة إذا كان مبدعًا، ويدفعه إلى أن يغير مسار حياته بأكمله ليتتبعه، فإما ينجح وتكون النتيجة أعمالًا إبداعية، وإما يقوده شغفه إلى الجنون، ولكن ذلك لم يعد يحدث الآن، فالناس أصبحت أقل جرأة وشجاعة في تتبع شغفهم بسبب ضغوط الحياة العصرية.
– أما التفسير العلمي لانتشار هذه الأسطورة وغيرها من الأساطير التي تعتمد على الحكايات المنقولة ولا يوجد أي دليل على حقيقة تواجدها، فهو أنه لم يكن هناك في هذه الفترة أي وسائل إعلامية لنقل الأخبار أو إذاعتها بين الناس والترفيه عنهم، وكذلك لم يكن هناك أي وسائل للإنارة الليلية في الطرق والحقول، لذلك كانت هذه القصص هي المادة الرئيسية للحكايات والتسلية والتي يجد فيها الكثير من الناس المتعة والتشويق مع غياب التعليم وانتشار الجهل الأمر الذي جعل الهاجس المخيف للجميع هو النداهة.