الدولار.. هيروح على فين؟
يعيش الآن العالم أجمع حالة من التنافس بين القوى العظمى قد تؤدي إلى إعادة تشكيل خارطة الاقتصاد العالمي، حيث إن التطورات الراهنة واسعة النطاق – والمرتبطة بتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على العالم- أسفرت عن اتخاذ عدد من الدول – الأعضاء في مجموعة بريكس- خطوات تسعى للقضاء على سيطرة الدولار على الاقتصاد العالمي والاستغناء عنه في التعاملات المباشرة بين الدول.
لذا يعتقد العديد من المحللين أن الدولار أصبح في مرحلة حرجة سينتج عنها إما أن تزداد سيطرته على مفاصل الاقتصاد العالمي أو ينهار في القيمة تماما!
ولكي نتبين المستقبل لابد أن نعرف كيف وصلنا إلى هنا؟
أولا: متى وكيف أصبح الدولار الأمريكي عملة احتياطي عالمي أو عملة وسيطة؟
إنه القرار الذي صدر بموجب اتفاقية “بريتون وودز” التي عُقدت في أعقاب الحرب العالمية الثانية في واشنطن عام 1944 واستهدفت استقرار أسعار الصرف العالمية من خلال تثبيت أسعار صرف العملات أمام الدولار مقابل ربط الأخير بالذهب، ومنذ ذلك الحين تحول الدولار من عملة محلية إلى عملة احتياطيات عالمية وحل محل الجنيه الإسترليني.
ولكن في عام 1971 قام الرئيس الأمريكي نيكسون بالتخلي عن الغطاء الذهبي للدولار، فأصبحت طباعة الولايات المتحدة للدولار غير مقيدة باحتياطي الذهب المتواجد لدى الاحتياطي الفيدرالي.
قرار مثل هذا كان من الممكن أن يقضي على الدولار تماما، لولا أن قام نيكسون بعقد اتفاقية البترودولار مع السعودية وفيها تم حصر بيع النفط بالدولار الأمريكي، وهذه الاتفاقية ساعدت على ضمان استمرار الطلب على الدولار، مما عزز من قيمته عالميا وجعله العملة الرئيسية للاحتياطات النقدية لمعظم دول العالم.
ساهم وجود الدولار كعملة عالمية في سيطرة الولايات المتحدة لعقود على الاقتصاد العالمي على حساب العملات المحلية في دول العالم، التي تكون مضطرة لشراء الدولار لتسديد تجارتها الخارجية.
كما كان أيضا بمثابة أحد أسلحتها في معاركها الاقتصادية ضد العديد من الدول.
وتلك كانت واحدة من أهم أسباب ظهور مجموعة البريكس!
ثانيا: ما هي مجموعة بريكس؟
هي مجموعة اقتصادية وتجارية حكومية دولية غير رسمية أنشئت عام 2006 وتضم 5 بلدان سريعة النمو، وتهدف إلى تطوير الحوار والتعاون متعدد الأطراف. و”بريكس” هو اختصار يرمز إلى البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، وتشمل أيضا دولا أخرى مهتمة بالانضمام إلى المجموعة وهي: الأرجنتين والجزائر وإيران وإندونيسيا وتركيا والسعودية ومصر، حسبما ذكرت وكالات الأنباء العالمية.
جدير بالذكر أن مصر انضمت رسميا إلى بنك التنمية التابع للبريكس في مارس 2023.
ثالثا: اتفاق روسيا والصين.. بداية الإطاحة بالدولار؟
لقد عززت المتغيرات الدولية على الساحة اتجاه عدة دول إلى إجراء التعاملات التجارية بعملاتها الوطنية، مدفوعين بما رأوه من استخدام الولايات المتحدة للدولار في محاولة للقضاء على الاقتصاد الروسي على إثر الصراع السياسي بينهم حول أوكرانيا، لماذا؟
يرى المحللون أن العديد من دول العالم فقدت الثقة في الدولار كعملة عالمية، فمن المفترض أن تكون تلك العملة محايدة في الصراعات الكبرى ولم يكن من الصواب استغلالها من قبل الولايات المتحدة لمصلحتها بهذا الشكل، وإلا ماذا سيوقفها لاستخدامه مجددًا ضد دول أخرى في كل صراع.
وهذا كان واحد من الدوافع الرئيسية لإبرام روسيا والصين (العضوان بمجموعة بريكس) اتفاقية تقتضي رفع مستوى التبادل التجاري فيما بينهما مستخدمتين في ذلك عملتيهما الروبل واليوان، خلال زيارة الرئيس الصيني لروسيا في مارس الماضي وهو ما اعتبره خبراء بمثابة ضربة للدولار الأمريكي، خاصة مع تزايد التوقعات بأن تنضم دولا أخرى إلى مجموعة بريكس.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، حيث لم يكد يمر أسبوعين وقامت الصين بعقد اتفاقية مماثلة مع البرازيل في أوائل إبريل، وتبعهم اتفاق مماثل بين الهند وماليزيا.
كل تلك التحركات ربما تدفع العديد من الدول للتخلي عن الدولار بشكل أسرع من المتوقع.
ماذا بعد؟
لم يقف الاتفاق الروسي – الصيني عند هذا الحد، بل إن روسيا مؤخرا تعمل على إنشاء عملة مشتركة جديدة بينها وبين الهند ودول البريكس الأخرى، فقد كشف وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في وقت سابق أن مجموعة “بريكس”، ستناقش مبادرة إنشاء عملة موحدة بين الدول الأعضاء، خلال القمة المقرر عقدها في جنوب أفريقيا في أغسطس المقبل 2023 ومن المتوقع أن تكون تلك العملة مغطاة بغطاء من الذهب على عكس الدولار مما سيشكل منافسا قويا له.
والسؤال الآن: هل عند ظهور تلك العملة الجديدة ستتراجع هيمنة الدولار؟
ربما ستتأثر، ولكن إزاحته من سيادة عملات العالم وتأثيره على اقتصادات الدول الصغرى لن يكون إلا بنفس الطريقة التي وصل بها لهذه المكانة وهي البترودولار.
لذا لابد أن يكون السؤال هو:هل يمكن أن نرى في يوم من الأيام قرارًا من الدول النفطية ببيع البترول بعملات أخرى كاليوان الصيني مثلا؟
يُعتقد أن هذا احتمال أشبه بالمستحيل، فالدول النفطية خاصة السعودية ترتبط بعلاقات تاريخية وثيقة مع الولايات المتحدة أكبر من خلافات الإدارات الحالية.
كما أنه من الصعب على المدى القصير استبدال الدولار بعملة أخرى لأن هذا سينتج عنه أضرارًا للدول النفطية نفسها، حيث إن قيمة صادرات النفط العالمية يمكن أن تبلغ خلال العام الحالي 2.6 تريليون دولار، وهي قيمة ضخمة تتطلب وجود سيولة كبيرة من العملة التي تستخدم في تجارة هذه السلعة، والدولار هي العملة الأقدر على القيام بهذه المهمة لأسباب تتلخص بالحجم الضخم من السيولة المتوفرة عالميا.
إذن فكافة التكهنات – التي انتشرت بعد ما تم إعلانه خلال العام الماضي حول انفتاح حكومة المملكة على قبول مدفوعات النفط بعملات غير الدولار- لم تتعد مجرد مناوشات بسبب خلافات سياسية مع إدارة بايدن، وليست بالجديدة.
على الناحية الأخرى، التغيير من عملة إلى عملة ثانية أو سلة عملات لا يحدث في يوم وليلة، وقد يستغرق الأمر سنوات عديدة لثبات استقرار العملة البديلة أو الهيكل البديل للدولار، بالإضافة إلى أن مزايا الدولار ستظل متأصلة في النظام المالي العالمي لقوة الاقتصاد الأمريكي، ولكي ينجح استبدال الدولار يجب أن يصاحبه انهيارا داخليا في الاقتصاد الأمريكي.
لذا يُعتقد أنه من الممكن أن تمثل عملة البريكس خطرا على الدولار على المدى البعيد بالفعل، ولكن اليوان الصيني عموماً مرتبط بالدولار ولا يعتبر عملة مستقلة، وكذلك العملات في دول الخليج مرتبطة أيضا بالدولار.
مما سبق: نستنتج أن نهاية الدولار صعبة على المدى القريب، فعلى الأقل يحتاج العالم لخمس سنوات قبل أن نشهد كيانًا جديدًا للتبادل التجاري بالعالم.
يبقى نقلق ولا منقلقش؟
بالنسبة لمصر، فقد أصبحت بشكل رسمي منذ أسابيع عضواً جديداً في بنك التنمية الجديد الذي أنشأته دول البريكس، وذلك بعد أن صدق الرئيس عبد الفتاح السيسي، على القرار رقم 628 لسنة 2023 بشأن الموافقة على اتفاقية تأسيس بنك التنمية الجديد التابع لتجمع البريكس ووثيقة انضمام مصر إلى البنك، الأمر الذي يعد بداية التعاون الرسمي بين مصر ودول البريكس، بما يمهد فيما بعد انضمام مصر للمجموعة.
ويرجح خبراء بأن هذه الخطوة قد تكون بمثابة انفراجة لمصر على المدى البعيد من أجل الخروج من عباءة الدولار، والتمهيد لإدراج الجنيه المصري في التعاملات الدولية، خاصة وأن دول البريكس لديها نفس الهدف، وهو التحرر من سيطرة الدولار والتعامل بالعملات المحلية الخاصة بهم.
كما ستساعد تلك الخطوة بشكل رئيسي على خفض تأثير تقلبات سعر صرف الدولار على الأسواق المصرية، بسبب ما سينتج من خفض الاحتياج للدولار في فاتورة الاستيراد.
لأنه بانضمام مصر إلى البريكس سيعني على المدى البعيد عدم الاحتياج للدولار في التبادلات التجارية مع باقي دول المجموعة وهم من أكبر الشركاء التجاريين للقاهرة.
ومع انخفاض الطلب فمن الطبيعي أن ينخفض السعر وكذلك أيضا يقل تأثير القرارات الاقتصادية الأمريكية على السوق المحلي، فكما هو معروف أن واحد من أسباب أزمة الدولار المحلية هي قرارات الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي التي ساهمت في خروج المليارات من الأموال الساخنة من الأسواق الناشئة كمصر وغيرها.
يبقى من الآخر.. مع تهديد سيادة الدولار..
متقلقش!